الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأقول: لك أن تجيب أيضًا عن إيرادات الواحدي الخمسة، التي أفسد بها قول مجاهد. أما جواب إيراده الأول، فإن مجاهدًا لم يفسر مادة البعث وحدها بالإجلاس. وإنما فسر بعثه المقام المحمود بما ذكر.وعن الثاني: بأن المقام هو المنزلة والقدرة والرفعة، معروف ذلك في اللغة.وعن الثالث: بدفع اللازم المذكور؛ لأنه كما اتفق على أن له ذاتًا لا تماثلها الذوات، فكذلك كل ما يوصف به مما ورد في الكتاب والآثار فإنه لا يماثل الصفات، ولا يجوز قياس الخالق على المخلوق.وعن الرابع: بأنه مكابرة؛ إذ كل أحد يعرف- في الشاهد- لو أن ملكًا استدعى جماعة للحضور لديه، ورفع أفضلهم على عرشه، أن المرفوع ذو مقام يفوق به الكل.وعن الخامس: بأنه من واد آخر غير ما نحن فيه؛ إذ لا بعث لإصلاح المهمات في الآخرة، وإنما معنى الآية: إنه يرفعك مقامًا محمودًا. وذلك يصدق على ما قاله مجاهد وما قال الأكثر. فتأمل وأنصف. وقد أنشد الحافظ الذهبي في كتابه العلو لله العظيم للإمام الدارقطني في ترجمته، قوله:
وقال الذهبي في كتابه المنوه به، في ترجمة محمد بن مصعب العابد شيخ بغداد ما مثاله: وقال المروذي: سمعت أبا عبد الله الخفاف. سمعت ابن مصعب وتلا: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} قال: نعم يقعده على العرش. ذكر الإمام أحمد، محمد بن مصعب فقال: قد كتبت عنه. وأي رجل هو؟! قال الذهبي: فأما قضية قعود نبينا على العرش، فلم يثبت في ذلك نص، بل في الباب حديث واهٍ. وما فسر به مجاهد الآية، كما ذكرناه. فقد أنكره بعض أهل الكلام. فقام المروذي وقد بالغ في الانتصار لذلك وجمع فيه كتابًا وطُرقَ قول مجاهد، من رواية ليث بن أبي سُلَيم، وعطاء بن السائب، وأبي يحيى القتات وجابر بن يزيد. وممن أفتى في ذلك العصر، بأن هذا الأثر يسلم ولا يعارض. أبو داود السجستاني صاحب السنن وإبراهيم الحربي وخلق. بحيث إن ابن الإمام أحمد قال عقيب قول مجاهد: أنا منكرٌ على كل من رد هذا الحديث. وهو عندي رجل سوء متهم. سمعته من جماعة. وما رأيت محدثًا ينكره. وعندنا إنما تنكره الجهمية. وقد حدثنا هارون بن معروف. ثنا محمد بن فضيل عن ليث، عن مجاهد في قوله: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} قال: يعقده على العرش. فحدثت به أبي رحمه الله فقال: لم يُقَدَّرْ لي أن أسمعه من ابن فضيل: بحيث إن المروذيِّ روى حكاية بنزول، عن إبراهيم بن عرفة. وسمعت ابن عمير يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: هذا قد تلقته العلماء بالقبول. وقال المروذي: قال أبو داود السجستاني: ثنا ابن أبي صفوان الثقفي. ثنا يحيى بن أبي كثير. ثنا سَلْم بن جعفر، وكان ثقة، ثنا الجريري، ثنا سيف السدوسي عن عبد الله بن سلام، قال: إذا كان يوم القيامة جيء بنبيكم صلى الله عليه وسلم حتى يجلس بين يدي الله عز وجل على كرسيه. الحديث. وقد رواه ابن جرير في تفسيره. أعني قول مجاهد وكذلك أخرجه النقاش في تفسيره. وكذلك رد شيخ الشافعية ابن سريج على من أنكره. بحيث إن الإمام أبا بكر الخلال قال في كتاب السنة من جمعه: أخبرني الحسن بن صالح العطار. عن محمد بن علي السراج. قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت: إن فلانًا الترمذي يقول: إن الله لا يقعدك معه على العرش. ونحن نقول: بل يقعدك، فأقبل عليَّ شبه المغضب وهو يقول: بلى، والله! بلى، والله! يقعدني على العرش. فانتبهت. بحيث إن الفقيه أبا بكر أحمد بن سليمان النجاد المحدث قال فيما نقله عنه القاضي أبو يعلى الفراء: لو أن حالفًا حلف بالطلاق ثلاثًا؛ إن الله يقعد محمدًا صلى الله عليه وسلم على العرش. واستفتاني، لقلت له: صدقت وبررت.قال الذهبي: فأبصر، حفظك الله من الهوى، كيف آل الغلو بهذا المحدث إلى وجوب الأخذ بأثر منكر. واليوم يردون الأحاديث الصريحة في العلو. بل يحاول بعض الطغام أن يرد. قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]. انتهى.{وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} أي: مدخلًا حسنًا مرضيًا بلا آفة: {وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} أي: مخرجًا حسنًا مرضيًا من غير آفة الميل إلى النفس، ولا الضلال بعد الهدى. و: {وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا} أي: عزًا ناصرًا للإسلام على الكفر، مظهرًا له عليه.وقد رأى المهايمي ارتباط الآية بما قبلها في معناها حيث قال: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي} أي: في هذه العبادات، فإنها لا توصلك إلى المقام المحمود، إلا إذا صدق دخولك فيها وخروجك عنها، ولا يتم إلا بإمداد الله بعد استمدادك منه. وقولك: {رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} أي: بمشاهدتك في هذه العبادات، وتخليتي عن الرياء والعجب، وتصفيتي بإخلاص العمل، وإخلاص طلب الأجر، ورؤية المنة لله، ورؤية التقصير فيها: {وَأَخْرِجْنِي} عنها: {مُخْرَجَ صِدْقٍ} فلا تستعملني فيما يحبطها عليِّ، ولا تردني على نفسي. وإذا غلبني الشيطان أو النفس أو الخلق، أو وردت عليَّ شبهة، فاجعل لي من لدنك، لا من عند فكري: {سُلطَانًا} أي: حجة: {نَصِيْرًا} ينصرني على ما ذكر؛ ليبقي عليَّ عبادتي فيوصلني إلى المقام المحمود. انتهى.واللفظ الكريم محتمل لذلك. ويظهر لنا أنه إشارة للهجرة كما ستراه.{وَقُلْ} أي: استبشارًا بقرب الظفر والنصر، وترهيبًا للمشركين: {جَاء الْحَقُّ} وهو الوعد بالسلطان النصير والإسلام ودولته: {وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} أي: ذهب وهلك. وهو الشرك وجولته: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} أي: مضمحلًا غير ثابت في كل وقت.تنبيه:سياق هذه الآيات مع سباقها أعني قوله تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ} يدل على أن نزولها في أوقات الاهتمام للهجرة إلى المدينة، ومبارحة مكة، وأنه تعالى أمر نبيه بأن يبتهل إليه في تيسير إدخاله لمهاجره على ما يرضيه، وإخراجه من بلده كذلك. وأن يجعل له حماية من لدنه، تعز جانبه وتعصمه ممن يرومه بسوء.وأسلوب التنزيل العزيز في مثل هذا الدعاء، هو إرادة الخبر بحصول المدعو، ومشيئة الله بوقوعه عن قرب. ولذلك عقبه بقوله: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} إعلامًا بأن الأمر تم، والفرج جاء، ودحر الباطل، ورجع إلى أصله، وهو العدم.روى الحافظ أبو يعلى عن جابر رضي الله عنه قال: دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة. وحول البيت ثلاثمائة وستون صنمًا، تعبد من دون الله. فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكبَّت على وجوهها. وقال: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}. ورواه الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود، بنحوه.قال في الإكليل: فيه استحباب تلاوة هذه الآية عند إزالة المنكر. اهـ.
|